ذكريات محظرة بلغربان

خميس, 11/17/2022 - 09:16

 

 

الحلقة رقم: ( 1)

 

تحن قلوصي ويحها ثم ويحها...إلى أرض نجد من تذكرها نجدا

فقلت لها هيجت لي لوعة الأسى...أصاب حِمامُ الموت أضعفنا وجدا

لقد نثر الأيامَ الماضية بعضُ تلامذة محظرة بالغربان بعضا من ذكرياتهم فحركوا كوامن الأشجان في كل من عاش أيام المحظرة فأسالوا العبرات بالعبر، إذ قد تغيرت أحوالهم فغاض من الوجوه ماء نعيمها، فحل الشيب محل الشبيبة منشدا:

 لإن كان إياه لقد حال بعدنا.. عن العهد والإنسان قد يتغير

 

فسنح لي أن أنثر هنا بعض تلك الذكريات وإن كان النسيان قد جر عليها ذيول الرامسات وحال هم دونها شاغل.

لقد تزامنت بدياتُ تطفُّلي على المحظرة مع فترة زمنية صعبة اقتصاديا، إذ جل رجال المنطقة كانوا تجارا في السينغال، وتم تسفيرهم في أحداث 1989 فعادوا إلى الوطن راضين من الغنيمة بالإياب، وبالرغم من ذلك كانت فترة ذهبية بالنسبة للمحظرة، فقد أدركت فيها بعضا من كبار التلاميذ، منهم: حمود بن أحمد يسلم الشقروي ومحمد سالم بن هيب ومحمدو بن ابراهيم بن عيسى بن الشيخ الحسن، وأحمد محمود بن حدو والمختار بن ابي الفضل و بلا بن الحسن بن عبد الله وسعد بوه بن هيب وآب بن ابر، وغيرهم.. وكنت حينها أنا وبعض أترابي صغارا يسموننا: "الهنابق" وواحدنا: "هُنبُق" وقد بحثت بعد ذلك عن أصل هذه التسمية، ولم أجد لمعناها إلا ما لا أرجو أن يكون هو المقصود، إذ يرجع معناها إلى ما يفيد الحمق.

كانت المحظرة عامرة بالطلاب والمرابط عبد الله في الخمسين من عمره، وقد وهب زهرة عمره في سبيل الله معلما لدينه مرشدا ومربيا، كان يبدأ التدريس في المسجد حدود الرابعة فجرا فتتوالى عليه التلاميذ حسب الأسبقية ولم يزل هكذا حتى يصلي الصبح ثم يجلس في المسجد أو جنبه، وتارة يخرج إلى بعض المهام فيتبعه الطلاب وهو يواصل التدريس ولا يزال كذلك حتى يأخذه النعاس في حدود الواحدة زوالا، فينسحب عنه التلاميذ دون علمه، فإذا انتبه ولم ير حوله التلاميذ ذهب إلى بيته، فيمكث سويعة، فيؤذن مؤذن الظهر، ثم يعمد إلى ظل المسجد أو ظل شجرات كنَّ شرقيه، ويحلق حوله كثير من رجال القرية، فيبدأ الطلاب أيضا في القراءة فيقرأ عليه بين الأذان والإقامة الطالب أو الطالبان فقط، وتكثر عليه في هذا الوقت الاستشكات والأسئلة من الحاضربن، وهو ما لا يحبه الطالب، إذ قد يشوش عليه ذلك. ثم تقام صلاة الظهر فيصلي المرابط بالناس، وفي أكثر الأحوال يثار بعض المسائل في المسجد فيعمد إليه فيشفي فيها العليل ويبرد الغليل، ثم يبدأ التدريس، ولا يزال هكذا حتى يصلي العصر، وفي العادة حينها تكون دروس الطلاب قد اكتملت، فيذهب المرابط إلى بيت الوالدة: (الهلالية بنت الخلف) ليشرب معها "الذَّهْبي" في كأسات شاه خلت من الغثيان، لا تتجاوز "برادين" وقد أكد المرابط ذلك ببيتيه: أتاينا عند الصباح جيم...وفي المسا باء وذامعلوم

يارب فاجعله لنا شفاء... من داء جيمه والباء

لم يكن بيت الوالدة الهلالية مغلقا دون التلاميذ، ففي هذه الجلسة وهذه الساعة فرصةٌ لكل من لديه استشكال في درسه، حيث يعمد إلى لمرابط فيزيل عنه الإشكال، ويحظى بشربة كأس من ذلك الأتي الذي له طعم خاص، ينتهي المرابط من جلسته مع الوالدة قبل المغرب بسويعة يذهب فيها إلى ناحية المسجد فيعمر تلك الساعة بالأذكار التي تتخللها أسئلة الحاضرين فيجيبهم في شتى المسائل، ثم يصلي المغرب بالناس، ثم يصلي ما شاء الله أن يصلي من النوافل، ثم يعمد إلى ربوة تقع جنوب غرب المسجد، فيتحلق عليه صغار طلبة علم النحو في حلقة إعراب مليئة بالطرف، يسقط فيها من يهمل التكرار ويفوز من يعتني بدرسه، فيعرف الشيخ بذلك المجد من الهزِل والنجيبَ من البليد، ولا يزال هكذا حتى يصلي العشاء، أما بعد صلاة العشاء فهو في العادة وقت لحل مشاكل المجتمع كسياسة القرية، والصلح بين الناس، سواء كان ذلك بين الإخوة أو الأزواج أو الجيران، وهكذا كانت كل أيامه، عدا مساء يوم الأربعاء ويوم الخميس وأول يوم الجمعة.

 

بقلم الأستاذ والأديب :محمدن التال 

 

يتواصل..