لعل الحقيقة التي حان الوقت لقولها بوضوح وبلا تردد هي أن موريتانيا باتت رهينةً للصراع بين نخبتين لا تريدان لها الخيرَ ولا النماء والتقدم:
１- نخبة بولارية لا ترى ولا تعترف بوجود شركاء في الوطن من خارج عرقية البولار نفسها، وهي نخبة عنصرية استئصالية تحتقر البيظان وتنظر إليهم على أنهم مجتمع بدائي ومتخلف وغير قابل للتمدين ولا يصلح سوى لرعي الجمال في الصحاري الموحشة.. ولا ضير عندها في محوهم من على وجه الأرض إن تطلب الأمر إعادة إحياء ممالك البولار وأمجادهم القديمة، لكن من دون أي أثر للإسلام واللغة العربية، إذ تعادي هذه النخبةُ لغةَ القرآن إمعاناً منها في مشاعر الكراهية ضد البيظان ورفضاً لمبدأ التعايش معهم.
２- نخبة بيظانية فاشلة وفاسدة وتفتقر لروح المسؤولية، وقد أعماها الجشع والتكالب على الثراء والتفاخر بالأملاك وبمظاهر الاستهلاك الترفي، عن أي مصلحة عليا للبلد. وفي سبيل ذلك ضربت بالقانون عرضَ الحائط وحطمت روحَ الدولة العصرية، وراحت تتعامل مع القبلية والعشائرية «على المكشوف»، وحوّلت المالَ العام إلى غنيمة أو كعكة تتقاسمها بينها، طوراً بالتفاهم وطوراً آخر بالتخادع وطوراً ثالثاً بالتغالب. لقد نهبت النخبة البيظانية مقدرات الدولة الموريتانية وباعت ثرواتها للأجانب مقابل عمولات ورشاوي.. فتردت الخدماتُ العامةُ وانهار التعليمُ واختفت الصحة وتصاعدت الأسعار وتفاقمت البطالة واتسعت دائرة الفقر والتهميش وبلغت الهشاشة أبعد من حدود المتخيل. وكانت نتيجة ذلك أن ازدهرت الانتماءات الأولية من قبلية وعشائرية وجهوية وشرائحية، وتنامت التوترات الكامنة والصامتة وغير المعبَّر عنها، خاصةً لدى الطبقات الهشة والشرائح المهمشة تاريخياً.
ولعل تلك التوترات الكامنة والمتراكمة هي ما تحاول النخبة البولارية استغلالَه الآن بعد أن فشلت محاولاتُها الانقلابية من داخل الجيش، كما أخفقت محاولاتها اللاحقة حملَ السلاح انطلاقاً من الجار السنغالي.. متحدثةً على الدوام عن سياسة تستهدف محو هوية الأفارقة الموريتانيين وكأن الآخرين في البلاد من غير البولار ليسوا أفارقة! وهذا في الوقت الذي تحاول فيه النخبةُ البيظانيةُ التغطيةَ على فسادها وفشلها وافتقارها للمسؤولية برفع شعار الدفاع عن العربية والتعريب من وقت لآخر، كسلاح فتاك لمواجهة النخبة البولارية! وبين هذا وذاك تبقى النخبة البيظانية منشغلةً بـ«الأكل»، غير عابئة سوى بحساباتها الضيقة وطموحاتها الشخصية المباشرة.
وبين نخبتين، نخبة عنصرية استئصالية أعمتها روح الكراهية والحقد، ونخبة فاسدة وفاشلة وطائشة ولا هم لها غير النهب والثراء الشخصي من المال العام، تظل موريتانيا رهينةَ صراع عقيم ومدمر، لا علاقة للغالبية الشعبية به ولا برهاناته القاتلة.. إلى أن يبرم الله لها أمرَ رشد تعز فيه ويذل أعداؤها.
محمد المنى
