لا يمكن للمتتبع للشأن الموريتاني أن يخمن أنه يفصلنا فقط ثلاثة أشهر عن الانتخابات الرئاسية. إنه أمر مدهش في الحقيقة في دولة تعددية ظل الطابع العام للانتخابات فيها هو الصخب .
إنها حالة هدوء غريبة أمام انتخابات رئاسية يدور فيها الحديث عن التجديد التلقائي لرئيس ينتظره الفوز رغم حملة التشنيع الذي يقوم به منتقدوه على خلفية تقييم أدائه الشخصي في السلطة (تدوير المفسدين ،عدم وضوح محاربة الفساد ، ارتفاع الأسعار ،هجرة الشباب . .). ومع ذلك لا يواجه أي منافس جدي تلتف حوله القوى السياسية التي تعبر عن نفسها أطوارا في المعارضة دون أن تنتظم في رؤية واحدة .
المشهد السياسي كالح بما في الكلمة من معنى، ويخرجنا عن السياق الموريتاني المألوف صخب: عارم وتخوف دائم لدى المرشح الرئيسي، "مرشح السلطة" عادة ، من الوقوع في شرك الشوط الثاني رغم أنه يملك، بتأثير الكرسي، الدعم التلقائي للقوى التقليدية ورجال الأعمال والموظفين وتدخل الجيش عبر قادته في العملية السياسية .. وبالرغم من تعدد اليافطات الملتهبة التي يرفعها المعارضون على رؤوسهم، فإنهم في حالة تشتت رهيبة وغير مسبوقة يتلبسها غياب الشخصيات القيادية الممهدة للانسجام ولروح العمل الجماعي الذي تلقي فيها المعارضة خصوماتها لأجل خلق جبهة ضد النظام !
فأي خلل اعتراها الآن لتنكص عن مألوف عادتها؟ هل يتعلق الأمر بالخطاب أو بالمصداقية أو بالكاريزما على الرغم من أن أقوى حزب معارض لم يدل برأيه النهائي في الانتخابات مع ما يملك من تقاليد في ذلك !! إننا في الحقيقة أمام ضعف تجميعي رهيب للمعارضة وانعدام لمغريات الخطاب السياسي المعارض الذي يلفه الأمل بالتغيير والإصلاح عادة وفي مناسبات كهذه: نهاية مأمورية رئيس يسعى للتجديد لنفسه .إنها عدم قدرة جلية على الحشد، لها جذور في هذه المأمورية، فلم تسجل السنوات الخمس لغزواني المليئة بالصراخ المعارض أي مهرجانات كاسحة ولا أي نشاطات سياسية مدوية، ومع ذلك تظل طبول الخطاب الجارح تقرع في كل الفضاءات الاعلامية .
قبل غزواني كانت الساحة تغلي بالنشاطات المعارضة التي تغري بقلب الحكم، وكانت الشخصيات السياسية الكبيرة والزعامات الوطنية تملأ المكان لدرجة أن التدخل المشين في الانتخابات (التهديدات ،استخدام العنف السياسي والاغراءات، وعدم نزاهة قضاء الانتخابات) كان يعمل بفاعلية قصوى. ومع ذلك كان الكل يلاحظ أن نصف المجتمع يخضع لتأثير خطاب المعارضة حيث يشغل نشاطها كل محركات البحث. لا يوجد هناك وجه للمقارنة بين الوضعين (قبل واثناء فترة غزواني ) ولو على مستوى هدوء الدولة، فلم توجد قرارات عنيفة، وكانت الرئاسة مرتعا للترضيات ،وظل الأمر مكسبا عظيما بعد 12سنة من الشطط وانعدام القواعد العامة والتوجهات الصادقة . يختلف الوضع على نحو آخر: رجل يعمل وفق تصوره الشخصي للأمور.
إنه لا يريد أن يقاسم غيره مهما كانت درجة التصاقه به كل المعلومات ، ولا أن يدخل معه في مطبخه الخاص. وهكذا نجد أن كل واحد من أساطين النظام يعبر بطريقته عن النظام والتوجهات والأولويات والانجازات والعلاقة بالطيف وشخوصه حسب ما يملك فقط من المعلومات الناقصة لدرجة أنها لم توجد روية موحدة أو كلية يتقاسمها حتى المقربون ،لكن ضمن الاختلاف يظل الانسجام يدور حول أهلية ووطنية الرئيس ، باستثناء هذه الجزئية التي لا يوجد تفسير لها سوى في التأويل -أي لابد من تركيبها من مجموعة كبيرة من النشاطات -يغيب عن الأذهان العنصر الناظم للانجازات ويغيب البريق .إنها، أي الانجازت، تتم خارج روح الفريق وروح النظام الذي تمزقه الانقسامات حول شخص الرئيس ،لكنها وبعيدا عن ذلك تظل نتاجا لمجهود قوي وقياسي في بعض جوانبه خاصة الإصلاحات العامة والمالية والاقتصادية وتطور ذمة الدولة ومصداقيتها لدى الشركاء .كما يتم التعبير عن "روحانية" النظام في العطف على المعدمين الذين يمثلون جسما كبيرا في المجتمع بسبب سوء السياسيات المتراكمة وعدم الانتباه لوضعهم الذي ينمو ويترعرع في جو من المآسي والهموم المتلاحقة. إنهم بحاجة قبل الخدمات الأساسية للبقاء على رمق الحياة .
لم يعظّم الناس تلك الفكرة التي هي تلافي هذا القطاع العريض من المجتمع في أوقات المحن خاصة جائحة كورونا وسنوات القحط والجفاف المتتالية على البلد. صحيح أن السجل الاجتماعي لتآزر اختلط فيه الحابل بالنابل وحصلت فيه الأسرة الواحدة على حظوظ عدة، بعدد أفرادها ، وبقي بعض الأسر التي تملك الحق من خلال المواصفات من دون الولوج لتلك العطية الاجتماعية التي تمثل نصيبهم المباشر من ريع البلد على الأقل ما دمنا لم نصل لدولة المساواة والعدالة في توزيع الثروة في شكل خدمات وتوظيف المهارات ودعم المبادرات الفردية، كما لم تشارك في تثبيت الشباب عن الهروب خارج الوطن ولا تثبيت الناس في الارياف رغم مسرحيات المندوب التي ينقلها الإعلام بأريحية ! .وهكذا نخلص لمحصّلة عجيبة لرأي عام يملك فيه خطاب المعارضة تشويشا كبيرا على النظام، بل يزداد عدد المتابعين بأهمية له مع انعدام أي تخوف من قدرتها على المنافسة.. فبأي شيء يمكن تسمية هذه الحالة !؟.
لم يكلف غزواني نفسه عناء الدخول في حملة مضاعفة وارهاق رجال الأعمال بالعطايا والدولة بالوقوع تحت ضغط الانتخابات وخضوعها بالتالي لوضع استثنائي يُحِّل الكثير من الممارسات تحت عنوان تمويل ودعم نشاطات الحملة ،فلا يوجد في أروقة الدولة أي سلوك لذلك الغرض، بل ترتسم الحيرة على وجوه الموظفين السامين والشخصيات التي اعتادت على تحويل الدولة إلى مائدة كبيرة باسم الحملة الرئاسية. دعونا على الأقل نتفق على أهمية ذلك .فهل ينم ذلك عن ثقة في النفس أو قراءة متأنية للوضع السياسي أو أن غزواني شغوف بتسيير الصمت أو الاختلاف الذي لا يدركه سوى العقلاء، ومع ذلك أيضا فإنه يشكل نهجا جديدا !. لكن السؤال المهم: أي نجاح ينتظر غزواني ؟ يبقى لحد الآن من دون إجابة ! وذلك لإنه دقيق جدا ويعبر عن خلاصة القول .
إنه -بمعنى أدق- يعني بأي شرعية سيكون نجاح غزواني ؟ فهل هو بنفس الثقة به مثل وضعه 2019 أي بنجاح الخطاب قبل النجاح الانتخابي أي فوز "الشرعية على المشروعية " من حيث التعلق به وبقدرته على قيادة البلد في خضم التحديات المقبلة التي تختلف من حيث الشكل وتتعمق من حيث المضمون بتأثير الرهانات المتعارضة: رهان الوفرة المالية ومشاكلها (الغاز ،الهيدروجين ،المعادن ..)
والوضع الحيوبولوتيكي (السباق الشرقي والغربي على البلد وتحوله إلى مركز مصالح للقوى العظمى وكذلك سباق الجيران الاقتصادي حول الظفر بالتعاون معه والعبور منه نحو إفريقيا) أم الرهان الأمنى (فشل قوة الساحل وتحول موريتانيا إلى دولة وجهة لدى الكثير من المهاجرين بدل دولة عبور بالنسبة للهجرة)، وبالتالي ينعقد الأمل بنفس القوة على قدرات الرجل وإعادة التجديد له في ضوء بالاصلاح وتغيير الوضع وغيرها من الآمال العريضة بحيث يكون التصويت له بقوة وحماس واندفاع مرتبطين بتثمين الماضي وأملا في المستقبل ؟أم أن النجاح بسبب التصويت الذي يشبه الاستقالة أو القنوط وثبوط العزيمة من التغيير وإبقاء الحال على ماهو عليه خاصة مع عدم وجد منافس جدي و يحظى بدعم قوة وطنية موثوقة ويملك خطابا يعبر عن المواطن ؟ وهكذا يجب التصويت للرئيس في ضوء انعدام البديل ؟.قليلون من يقيّمون الوضع وينتبهون لمثل هذه الوضعية ويحسبون أهمية الفرق في النجاح من داخل جبهة قوية تتقاسم الأمل والطموح نحو مستقبل أفضل وتدعم خطابا وطنيا زاخرا بالأمل والتغيير والإصلاح وبرنامجا له اتباع ويؤيده الواقع ، وبين نجاح تفرضه حالة من الضعف والفتور النفسي وعدم الثقة بالسياسية وآلياتها في التغيير ! .. إنها على كل حال حالة غير مسبوقة وستقود لوضع غير مسبوق .فبأي وسيلة سينجح غزواني !
من صفحة الاعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار