سيدخل الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني التاريخ، باسطا ذراعيه كجناحي مَضرَحيّ، لو أتيح له أن يضع حداً للإفلات من العقاب، و أن يرسي ثقافة احترام المال العام و الضرب على أيدي الفاسدين، لأنه لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية في بلد تسود فيه ثقافة التربّح و الكسب الحرام.
لقد أحسن الرئيس صنعاً حين صرّح بممتلكاته، و كان لذلك أن يكون أكثر مصداقية لو أتيح الاطّلاع عليه لجميع المواطنين، كما فعل الرئيسان الجزائري و التونسي، فـ"التصريح" يقتضي الإعلان و الإشهار.. و قد صرّح ولد عبد العزيز بممتلكاته بدايةَ مأموريته الأولى و نهايةَ الأخيرة، دون أن يطلّع المواطنون على حال ثروته و مآلها.. ليفاجئنا بتصريحه المستفزّ عن أمواله الطائلة، و تحدّيه لمن تسوله نفسه أن يسأله: من أين لك هذا؟ بمصيرالقُراد غبّ الحجامة.
إن مكافحة الفساد ستكتسب مصداقيتها من التزام ولد الغزواني بالشفافية في تسيير الشأن العام، و منحه فرصا متكافئة، لا تفاوت في حظوظها بانتماء طيني أو محسوبية سياسية.. فلا يصطلي ناراً من سرباله من زُبدة.
لا مندوحة لولد الغزواني إن أراد أن يسجل اسمه طغراءً في سجل الخالدين من أن يعيد للدولة هيبتها، و للمال العام حرمته، و هو ما لن يتأتّى بغير محاكمة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، و استرجاع ما نهبه و عصابته من ثروات البلاد. و لكن ينبغي أن يتم ذلك من خلال تطبيق للقانون، لا إفراط فيه و لا تفريط.. ليهلك من هلك عن بيّنة.
لقد أصاب ولد الغزواني شاكلة الرّمي حين أرادها لجنةً برلمانية، تحقق في فساد العشرية، فهو بذلك يعيد الاعتبار لبرلمان منتخب (رغم تحفظي الكبير على الطريقة التي تم بها انتخابه) بعد أن جعل منه ولد عبد العزيز دمية يتلاعب من خلالها بالتشريع و التقنين، و كتيبة تُظاهِره في تجاوزاته على الديمقراطية و القانون.
و من محاسن هذه الإجراءات إعادة الاعتبار لمؤسسات الرقابة المالية: محكمة الحسابات و مفتشية الأموال العمومية، حيث بدأت تطلع الرأي العام على تقاريرها و نتائج تحقيقاتها في تسيير المؤسسات، مما يعزّز السلطات و يرسي ثقافة الرقابة على المجال العمومي.
و هكذا فإن التحقيق في فساد العشرية و متابعة المسؤولين عنه، و أولهم الرئيس السابق الذي علا أتيّ فساده الآطام، قد يكون مطمئناً على أنه ليس في نية نظام ولد الغزواني أن يقيم نظام فساد على أنقاض آخر. فالذي يرسي قواعد الرقابة و المحاسبة لن يشيد قصور رمل بحيث تصلها الأمواج.
إن محاكمة ولد عبد العزيز ستمكن ولد الغزواني من أن يرسي دعائم حكمه، آمناً بوادر سلفه المستهتر، كما ستعيد للدولة هيبتها، و للقانون قوته و سلطته.. و ستكون جابرة لخطيئة ولد الغزواني الأولى، يومَ كان ظهيرا للانقلاب على رئيس مدني منتخب، زاجرةً لمن يتولى بعده الشأن العام. غير أنه لكي تؤتي محاكمة الرئيس السابق أُكلها و تطلع غرسها يجب أن يتم فيها تجنّب الانتقام و تصفية الحسابات و الانتقائية في المستهدفين بالمحاسبة.