لا يتفق الموريتانيون على شيء قدر اتفاقهم على الشاي، فالـ”أتاي” كما يطلق عليه محليا هو المشروب الشعبي في أرض المليون شاعر، حيث لا يكاد يخلو بيت من “مواعين” وجماعة تتحلق حول “القيّام”، وهو الشخص الذي يصنع الشاي.
ومنذ عرف الموريتانيون الشاي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، رافقت شربه طقوس وعادات متنوعة، منها اشتراط ما يسمى “الجيمات” الثلاث، بحسبب سكاي نيوز عربية.
وتشير كلمة “الجيمات” إلى 3 أحرف “ج”، هي الحروف الأولى من كلمات “جماعة” و”جمر” و”جر”.
الجيم الأولى من الجماعة، فلا يطيب شراب شخص أو اثنين بل ينبغي أن تزيد الجماعة على ذلك، وأن تضم ظرفاء ومثقفين لتتحقق فيها الصفة المطلوبة.
أما الجيم الثانية فمن الجمر، حيث إن طريقة تحضير الموريتانيين للشاي تقتضي طهوه جيدا حتى تنضج العصارة، ويفضل أن يكون ذلك على نار هادئة ويجدد لها الجمر كلما خبا، ومع أن استخدام مواقد الغاز بدلا من الفحم أصبح هو القاعدة، فلا يزال البعض يصر على جيم الجمر كلما أتيح له ذلك.
والجيم الثالثة من الجر، وتعني تطويل مدة الشاي، ليتسنى الحديث بين كل دورة وأخرى.
“أتاي رمز وطني ومكون أساسي من مكونات الثقافة لدينا” حسبما يقول سيد البكاي، وهو موظف في العقد الخامس.
ويضيف متحدثا لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن أحد المستشرقين كان يطلق على الإدارة الموريتانية الوليدة “إدارة كؤوس الشاي”.
وبغض النظر عن رمزية هذا اللقب وما يحيل اليه من سخرية يتصورها الكاتب ويرجعها إلى عدم الخبرة وقلة الملفات، فإنها كانت ولا تزال تشكل أصدق تعبير عن تعلق الانسان الموريتاني بالشاي.
والشاي ليس مجرد مشروب يحتسيه المرء ليبعث فيه النشاط أو يعينه على مقاومة برد الصحراء، بل هو مناسبة للسمر وتبادل الأحاديث والنوادر بين الكأس والأخرى، وقد كان الشاي في بداية أمره يدور على المجلس 4 دورات، لكنه استقر في نهاية الأمر على 3 دورات أو كؤوس.
يعتبر شرب الشاي الأمر الأكثر أهمية والعادة الأقوى في حياة الموريتانيين، فلا يمكن الاستغناء عن “أتاي الصباح” بنكهة النعناع المنعش، وأي اختلال في هذه العادة يترتب عليه صداع يصاحبه فتور ونعاس أحيانا، وهو ما يسميه أبناء موريتانيا “آتري” أو “آدواخ”.
“إذا لم أشرب الشاي في الموعد المحدد فلن أستطيع عمل شيء في ذلك اليوم”، حسبما تقول نفيسة، وهي ربة منزل عمرها 35 عاما، متحدثة لموقع “سكاي نيوز عربية”.
وتضيف: “أحيانا أكون وحدي فلا أجد الرغبة في أن أشرب الشاي وحدي. فأستدعي إحدى الجارات أو انتظر رجوع الأولاد من المدرسة”.
ولا فرق في شرب الشاي بين الرجال والنساء ولا بين الشباب والكبار، لكن يستثنى الأطفال في الغالب من شربه بشكل دائم.
وتتحد عادات الشاي بين مختلف أعراق المجتمع الموريتاني، حتى إنه لا يعرف من أخذ هذه العادات من الآخر.
ويستهلك الموريتانيون الشاي بمعدل 3 مرات يوميا، وقد بلغت واردات البلاد من الشاي عام 2018 حسب إحصائيات رسمية، 18500 طن، وتبلغ قيمتها المالية ما يزيد على 30 مليون دولار.
وأثار ظهور الشاي في المجتمع الصحراوي ريبة البدو، فـ”الورقة” المستجلبة من الصين عن طريق الإنجليز لا تبعث على الاطمئنان، والمجلس والكؤوس وما يلي ذلك من إدمان كلها أمور أربكت المجتمع لشبهها بمجالس الشراب كما سمعوا عنها، والمجتمع الموريتاني بطبعه شديد النفور من الخمر.
لذلك أفتى عدد من الفقهاء بحرمة الشاي، ولأنه أيضا “سفه ويشغل عن طاعة الله” حسب آرائهم، كما أن الأطباء التقليديين اعتقدوا ضرره على المعدة وصعوبة هضمه، خصوصا إذا كان على الريق.
وفي مقابل ذلك، أفتى عدد من العلماء بحلِيته واستطابوا شربه، معتبرين أنه معين على العبادة والتعلم، بينما سكت عنه آخرون لغياب دليل شرعي يحلله أو يحرمه.
ولا يمكن لقضية بهذه الأهمية أن تغيب عن ساحة الشعر لا سيما في موريتانيا ، فأغلب المتعلمين شعراء يناقشون المسائل العلمية بالمطارحات الشعرية.
ومن الفقهاء الذين لم يحبوا شرب الشاي، الشيخ محمد حامد ابن آلافي، حيث قال:
ما أنه ليس يغني المرء من عطش ولا من الجوع يغني وهو موموق
غير أن الأكثرية لم يروا به بأسا، وتباروا في مدحه والإشادة به، ومن ذلك قول ابن حبيب الرحمن:
ومعتقٍ.. باكرتُ.. عند المطـلعِ.. والشمس بادية السنا لم تطلعِ
فسعيتُ فيه بحيلتي حتى أتى.. جبر الخواطر كالعصير المنقعِ
وتنازعته حلاوةٌ ومرارةٌ.. كلتاهما عن شأوها لم تنزعِ
كما يزخر الزجل الحساني بمساجلات على الشاي، وقصائد في المفاضلة بين أنواعه أو “الورقة” التي تنوعت أشكالها وتعددت أسماؤها في الآونة الأخيرة، حتى لم يعد يمكن التمييز بينها.