بعد انتخابات الخميس 12 دجنبر المثيرة للجدل، والتي أسفرت عن انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجزئر خلفا لعبد العزيز بوتفليقة، يظل الجنرال قايد صالح (79سنة) هو الحاكم الفعلي لبلاد كانت دوما في قبضة الجيش منذ استقلالها في بداية الستينيات.. فمن يكون قائد الجيش الجزائر؟ وكيف تخلص من كل خصومه ليبقى لوحده بالساحة في مواجهة حراك الجزائريين؟
الآن صار للجزائر رئيس، بيد أنه ليس لها سوى زعيم حقيقي واحد، وليس هو عبد المجيد تبون، الذي انتخب في 12 دجنبر الجاري في انتخابات مثيرة للجديل. القائد الوحيد للجزائر يدعى "أحمد قايد صالح". فهذا الأخير، وهو رئيس أركان الجيش ونائب وزير الدفاع، فرض نفسه، منذ انطلاق الحراك الجزائري في 22 فبراير الماضي، وبات الوجه المكشوف للنظام. إذ كان لا يتردد، في كل مساء خلال نشرات الأخبار، في إصدار الأوامر، وتوزيع التوبيخات، وإطلاق التهديدات، وذلك في خطب يلقيها أمام الجنود بمناسبة هذا التدشين أو ذاك، وهذا الحفل أو ذاك، أو هذا التخليد أو ذاك.
ولم يسبق لأي رجل، منذ عهد هواري بومدين (الذي حكم البلاد بين 1969 و1978)، أن جمع كل هذا القدر من السلطة والقوة، مع أن أحمد قايد صالح ليست له لا الشرعية الثورية ولا التاريخية، ولا يتمتع بالكاريزما التي كانت لسلفه البعيد هذا. وهو في الواقع يجسد تحول الجيش الجزائري، الذي خرج من حرب الاستقلال منتصرا ولكن مترنحا، إلى مؤسسة قوية، واثقة من نفسها وفاحشة الثراء. وعلى عكس بومدين والرئيسين الشاذلي بن جديد (1979-1992) وليامين زروال (1994-1999)، المنتميين أيضا إلى الجيش، كان قايد صالح يفضل دائما التحرك في الظل وراء حكم مدني ليس سوى واجهة، كما كان الحال خلال السنوات الأخيرة لعهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزي بوتفليقة.
وإذا كان قايد صالح لا يتمتع بـ"هيبة" بومدين، فإنه كذلك لم يتميز بالوحشية التي كانت لسابقيه من الجنرالات نزار ومدين وبلخير والعماري.. "أصحاب القرار" الذين اشتهروا في عقد التسعينيات والذين صعدوا إلى الواجهة بعد قمع مظاهرات أكتوبر 1988، ثم خلعوا الشاذلي بن جديد، الذي كان رخوا أكثر من اللازم في نظرهم، وألغوا الانتخابات التشريعية لـشهر يناير 1992، التي كانت ستفوز بها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ". وسيقود "أصحاب القرار" أنفسهم حربا قذرة للقضاء على الجماعات الإسلامية. وبعد بضع سنين وحوالي 200 ألف قتيل، جاؤوا بعبد العزيز بوتفليقة من منفاه وحملوه إلى كرسي الرئاسة في 1999، في إشارة منهم إلى عودة البلاد إلى "الوضع الطبيعي"(...).
الهزة المنذرة بالزلزال
ولفهم كيف وصل قايد صلاح إلى هذا الموقع، ينبغي العودة قليلا إلى الوراء، ورصد الهزات الخفيفة التي سبق زلزال "الحراك". ففي 29 ماي 2018، أوقفت البحرية الجزائرية في ميناء وهران الباخرة "فيغا- مركوري"، القادمة من مدينة "بالينسيا" الإسبانية، واكتشف رجال الجمارك على متنها 701 كلغ من الكوكايين الخالص، كانت مخبأة في حاويات اللحم المجمد. وهذه سابقة في الجزائر.
ويقول مصدر أمني فرنسي: "هذا البلد فقير ولا يمكنه استيعاب كل هذه الكمية. وعلى الأرجح كانت هذه المخدرات موجهة إلى أوروبا بحرا أو بلدان الخليج عبر الطرق الصحراوية التي تسيطر الجماعات الإرهابية على بعضها". وكان صاحب حمولة هذه السفينة هو مستورد اللحوم "كمال الشيخي"، الملقب بـ"البوشي" (جزار بالفرنسية)، وهو كذلك نشيط في مجال العقار. وينتمي رجل الأعمال هذا إلى تلك الفئة القليلة التي اغتنت بفضل علاقاتها مع قادة "النظام" سواء كانوا مدنيين أو عسكريين. ويمثل تجسيدا حقيقيا لاقتصاد لا ينتج شيئا آخر غير المحروقات، ويمكن الاغتناء فيه من خلال احتكار اسيتراد منتوج ما. وكان "البوشي" يحتكر تزويد الثكنات الجزائرية باللحوم.
خلال التحقيق، حجز المحققون حاسوبا يحتوي على العشرات من الفيديوهات السرية تتضمن كل اللقاءات التي كانت لـ"البوشي" مع عسكريين وقضاة ورجال أمن، وموظفين وغيرهم من "أبناء النافذين". باختصار تم العثور على شبكته من الوسطاء والنافذين.
تم تسريب هذا الملف الضخم إلى الصحافة، ووجهت تهمة استغلال النفوذ إلى عدد من القضاة وعمد المدن والولاه، فضلا عن خالد تبون، نجل الرئيس الجديد. ولكن تم بالخصوص طرد خمسة جنرالات الذين وضعهم القاضي العسكرية رهن الإقامة الجبرية: ثلاثة قادة لمناطق عسكرية وأحد قادة الدرك، والمدير المالي لوزارة الدفاع. اما قائد الأمن الوطني، الجنرال عبد الغني الهامل فقد اضطر إلى الاستقالة. إنها عملية تطهير غير مسبوقة بالجزائر كان قايد صالح هو المشرف عليها، بيد أن كل الضباط المعنيين أطلق سراحهم بعد شهر فقط... ورأى المراقبون أن من يقف وراء هذا القرار هو سعيد بوتفليقة، الشقيق القوي للرئيس العاجز عن ممارسة سلطاته منذ أن تعرض لجلطة دماغية في 2013. فقد كان سعيد هذا يسعى إلى حماية الموالين له أو حشد مزيد من الداعمين له. وهذا "خط أحمر" لا يجب تجاوزه بالنسبة إلى قايد صالح الذي يعتبر أنه لا ينبغي للمدنيين حشر أنوفهم في قضايا الجيش (...).
ومع نهاية 2018، أخذ الرأي العام الجزائري يحس بأن هناك شيئا ما ليس على ما يرام في قمة هرم السلطة بالبلاد. فقد كشفت قضية "الكوكايين" هذه أن السلطة فاسدة – وهذا كان الجميع يدركه- ولكنها بالخصوص منقسمة. واصل قايد صالح ولاءه الأعمى للرئيس بوتفليقة ولكن ليس لحاشيته وبالخصوص أخيه.
ويعود التحالف بين الرجلين إلى 2003، لما اتصل الرئيس بهذا الجنرال، الذي كان قائدا للقوات البرية، ليخبره أن الجنرال محمد العماري، رئيس الأركان آنذاك، يعتزم إحالته على التقاعد بعد أن بلغ 63 عاما من عمره. والعماري هذا هو أحد "أصحاب القرار" الذين حملوا بوتفليقة إلى السلطة في 1999، ولم يكن ينظر بعين الرضا إلى تحرر "صنيعته" من قبضته والترشح لولاية ثانية دون حتى أن يسأله رأيه.
وبعد أن أعيد انتخابه في 2004، عمد عبد العزيز بوتفليقة إلى إقالة محمد العماري بمساعدة من قايد صالح الذي كان سعيدا بالانتقام من غريمه وأخذ مكانه. ويقول ديبلوماسي سبق له لقاء رئيس الأركان عدة مرات إن "الثنائي الذي شكلاه كان يسوده التفاهم التام"، ثم أضاف "فقايد صالح لم يكن يأخذ مكان بوتفليقة، بالمقابل كان الجيش المستفيد الأول من عائدات النفط". ويقول عسكرية فرنسي: "أخذ الجنرالات الجزائريون يتنقلون على متن طائرات خاصة داخل بلادهم.. ولم يسبق لي أن رأيت أمرا مثل هذا في مكان آخر". كما أن الجزائر صارت أول مستورد للسلاح في القارة الإفريقية.
هذا السخاء مكن قايد صلاح من كسب ود رجال الجيش أكثر مما كان مساره العسكري سيتيحه له. إذ أخر فقدانه لوحدته العسكرية خلال مواجهة مع الجيش المغربي في الصحراء خلال السبعينيات، ترقيته، ولم يصل إلى رتبة الجنرال سوى في 1993. ولكن تبين مع تطور الأحداث أن هذا التأخير لعب لصالحه في نهاية المطاف. إذ لم يحسب عليه قمع مظاهرات أكتوبر 1988(التي خلفت 159 قتيلا حسب الإحصاءات الرسمية وأكثر من 500 حسب مصادر طبية)، كما أنه لم يكن من المسؤولين عن وقف المسلسل الانتخابي في يناير 1992. كذلك تجنب التورط في فظائع الحرب المدنية في عقد التسعينيات لأنه كان قائدا للقوات البرية، في حين أن المواجهات في تلك الفترة كان يخوضها قادة المناطق العسكرية والقوات الخاصة.
ولكنه لم يفلح في فرض نفسه بشكل فعلي داخل المؤسسة العسكرية سوى في 2015، إذ كانت السلطة إلى غاية هذا التاريخ موزعة بين ثلاثة أقطاب: الرئاسة، الجيش والمخابرات التي كان يقودها لسنين طويلة الجنرال الغامض محمد مدين، المعروف بـ"توفيق". "كانت لجهازه ملفات عن الجميع" يقول ديبلوماسي غربي معجب بـ"دقته" وحسه السياسي قبل أن يضيف "لم يكن يجري تعيين من دون موافقته". وفي 2008 سيُغضب بوتفليقة بعد تسريبه لوثائق تؤكد فساد وزيره في النفط وصديق طفولته، شكيب خليل الذي اضطر إلى الاستقالة والمنفى. وفي 2014، أبدى "توفيق" تحفظه كذلك على ترشيح بوتفليقة لولاية رابعة نظرا لتدهورصحته كثيرا بعد الجلطة.
بعد إعادة انتخاب بوتفليقة في تلك السنة من دون أن يقوم حتى بحملة انتخابية، وبعد أن صار قايد صالح نائبا لوزير الدفاع، شن هذا الأخير هجومه المضاد على جهاز المخابرات وتمت إحالة "توفيق" القوي على المعاش. "لم يتوقع الضربة ولم يرغب في المواجهة" يقول أحد الشهود. وتم تفكيك هذا الجهاز وتوزيعه بين الرئاسة ورئاسة الأركان، وبالتالي لم يتبق سوى قطبين للسلطة: الرئاسة والجيش. ولكي يعزز موقعه ويضمن مستقبله، أخذ شقيق الرئيس الجزائري في شراء الولاءات بأثمنة باهظة. ولكن أسعار النفط انهارت فجأة، فاندلعت من جديد حرب العشائر، التي كان من نتائجها فضيحة الكوكايين.
وحيد في الساحة
وفي يناير 2019، أكد قايد صالح دعمه لولاية خامسة لبوتفليقة، ولم تغير المظاهرات الأولى في نهاية فبراير من موقفه. بل إن صهره، عبد الغني زعلان، الوالي السابق لوهران ثم الوزير المكلف بالأشغال العمومية منذ 2017، أصبح في مارس مدير حملة الرئيس المنتهية ولايته. ولكن ضغط الشارع اشتد كثيرا، وفي 26 مارس غير قايد صالح من موقفه و"اقترح" على المجلس الدستوري إعلان عدم قدرة الرئيس الطاعن في السن على القيام بمهامه بسبب وضعه الصحي. وهذا ما تم بعد أسبوع واحد.
أخذ الجميع يتحركون في الكواليس للعثور على بديل لبوتفليقة. فالتفت شقيقه سعيد، الذي كان مستعدا للقيام بأي شيء لإنقاذ نفسه، إلى الجنرال محمد مدين، الرئيس السابق للمخابرات وإلى خلفه البشير طرطاق للقيام بمحاولة إقناع الجنرال ليامين زروال بالعودة إلى الحلبة، ولكن دون جدوى.
فرد قايد صالح، مستغلا موجة الحراك الشعبي، بإطلاق حملة "الأيادي النظيفة"، وتم اعتقال سعيد بوتفليقة والمقربين منه، ضمنهم رجل الأعمال علي حداد، فضلا عن شبكة مدين، كما تخلص من إسعاد ربرب، أغنى رجل في البلاد رغم أنه كان من المعارضين القدامى لبوتفليقة. ثم وجه مدفعيته إلى الوزيرين الأولين السابقين عبد المالك سلال وأحمد أويحيى، وكذلك إلى وزراء سابقين وقادة أحزاب في السلطة والمعارضة على حد سواء، بل لم يسلم منه حتى صهره.
باختصار، لم يعد في الساحة سوى الجنرال... والحراك الذي أخذ يرفع شعارات ضده، فيرد بقمع متزايد للمتظاهرين. إنه آخر ممثلي "النظام" ولكنه الأكثر عنادا.
ويقول ديبلوماسي إن "الجيش لن يقبل أبدا أن يدفع مدنيون رئيس الأركان إلى الاستقالة.. فقد ألف اتخاذ القرار في كل شيء وفي ظل الغموض.. في الجزائر هناك مؤسستان فاعلتان فقط.. الجيش وسونطراك، الشركة النفطية الوطنية.. ولكن هناك سلطة واحدة: سلطة العسكر.. فالبلاد كلها في ملكهم.. ولكن هذه السلطة أصبحت عارية منذ رحيل بوتفليقة، لهذا كان من اللازم الإسراع بانتخاب رئيس"(...).
عن "لوموند" بتصرف
تيل كيل عربي