في ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة طيبة الطيبة؛ نستحضر خروجه صلى الله عليه وسلم من مهبط الوحي إلى أرض ذات نخل تشرفت بأفضل الخلق وحبيب الحق ومعلم البشرية فتطيبت بطيب المنقذ من الضلال صلوات الله وسلامه عليه.
هجرة تعلقت النفوس بتنسم أريجها الفواح..
حين احتضنت يثرب المثقلة بالجراح ..
من شقاق وفرقة دعوة دين الرحمة والسماحة والسلام.
حدث فارق غير مسار الإنسانية ..
تاريخ كتبت سطوره بأحرف من نور..
وقائع ودروس وعبر ضن الزمان بمثلها ..
وقوم كرام نالوا شرف الصحبة..
فتنزين الزمان والمكان والإنسان
وأشرقت أنوار الهدى والعدل..
ألا نحدث الأبناء عن السيرة النبوية الشريفة العطرة؟
أليس ذلك منجاة من تشتت الفكر وحيرة الأفئدة!
بلى ورب الكعبه.
بل هو البلسم الشافي لأمراض القلوب والعقول.
وفيه امتثال لأمر الرحمن الرحيم بالاقتداء بسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.
ثم إن الحديث عن الهجرة النبوية الشريفة في هذا الزمن من الأهمية بمكان.
زمان اختلت فيه معايير القدوة الراشدة، وتغييرت فيه القيم والأخلاق وخالط الدخن سلوك الأفراد والمجتمعات،
وتعلقت الناشئة بقدوات غير صالحة للاقتداء، وصار المقلد يقلد غيره تقليد الببغاء، يؤخذ بزمام نفسه وعقله نحو أهداف واهية وأضغاث أحلام لا يلوي صاحبها على شيء.
عاقبة مساره وخيمة، وخيبة الأمل فيه عظيمة.
ولا يمكن تدارك الوضع الحالي للأجيال الأمة إلا بإعادة نشر السيرة النبوية الشريفة وتعلمها وتعليمها للأبناء والعيش مع أحداثها المباركة، واستنباط الأحكام من السنة العملية والتقريرية، واستخلاص الدروس والعبر منها،
والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأوقات، والعمل على ضبط السلوك الفردي والجماعي بضوابط المنهج النبوي الشريف.
وذلك أن السيرة النبوية الشريفة؛ أحسن مهذب وأنصح مؤدب، وأبلغ معلم وأجمل قدوة، وفي أحداثها المباركة من التاريخ الذهبي الموجه للإنسان نحو أسمى المعاني وأعلى الأماني، ما لا يمكن سرده في بضعة أسطر، ولكن تنبيها على فضلها، ودلالة على عظم مكانتها.
إن ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى من قبل قومه لما دعاهم إلى الحق، وما قابلهم به صلى الله عليه وسلم من الصبر العظيم، وإخراجه من أحب البلاد إليه، ومقاساة البعد عن الأهل والوطن في سبيل الله، وفي هذا درس كبير يستلهم منه المسلمون قيمة الصبر على المبادئ والتربية على الثبات على دين الله تعالى، والصبر على الطاعة في زمان كثرة الفتن والشهوات.
ويلاحظ أن الإرهاصات التي سبقت وواكبت حدث الهجرة النبوية الشريفة التي غيرت مجرى التاريخ؛ تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات العظيمة؛
منها على سبيل المثال لا الحصر..
_ شدة حب الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ما يجب على كل مؤمن؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: عن عائِشةَ، أنَّها قالَتْ: كان لا يُخْطِىءُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يأتِيَ أبي بكرٍ أحدَ طرفَيِ النهارِ: إما بكرَةً، وإمّا عشيًّا، حتى إذا كان اليومُ الذي أذِنَ اللهُ فيه لرسولِهِ في الهجرةِ والخروجِ من مكةَ منْ بينِ ظهرَيْ قومِهِ، أتانا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالهاجرةِ في ساعَةِ كان لا يأتِي فيها. قالتْ: فلما رآهُ أبو بكرٍ قال: ما جاءَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في هذِهِ الساعَةِ إلّا لِأَمْرٍ حدث. فلما دخلَ تأخَّرَ لَهُ أبو بكْرٍ عن سريرِهِ، فجلَسَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وليس عندَ رسولِ اللهِ أحدٌ إلّا أنا وأختي أسماءُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أخرِجْ عني مَنْ عندَكَ، قال: يا رسولَ اللهِ، إِنَّما هما ابنتايَ. وما ذاكَ – فِداكَ أبي وأمي _ قال: إِنَّ اللهَ أذِنَ لي بالخروجِ والهجرةِ. فقال أبو بكرٍ: الصحبةُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الصحبَةُ. قالَتْ عائِشَةُ: فواللهِ ما شعَرْتُ قطُّ قبلَ ذلِكَ اليومِ أنَّ أحدًا يبكي من الفرحِ حتى رأيتُ أبا بكر يومئذ يبكي ! !. ثُمَّ قال: يانبي الله إِنَّ هاتينِ الراحلتينِ كنتُ أعددتُهما لهذا، فاستأجرا عبدَ اللهِ ابنَ أريقطٍ – وهو مشركٌ – يدلُهما على الطريقِ. ودفعا إليه راحلتَيْهما فكانتا عندَه يرعاهُما لميعادِهما}. فقه السيرة ١٦٠ • إسناده صحيح، وأخرجه البخاري مع شيء من الاختصار.
- حسن الإعداد والأخذ بالأسباب؛ فعله صلى الله عليه وسلم في طريقة خروجه من مكة المكرمة، وهو المؤيد من قبل العزيز الحكيم جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره، وذلك على سبيل إرشاد الأمة إلى إعمال الأسباب دون الاعتماد عليها، والأخذ بالوسائل المادية، وتحقيق مبدإ الاستخلاف في الأرض، وامتلاك آليات العمل والقوة مقرونة بالتوكل على الله تعالى، فقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة لخروجه في رحلة الهجرة النبوية الشريفة؛ من زاد وراحلة، وخريت يعلم طبيعة مسالك الطرق يدله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضوان الله عليه الطريق.
_ العناية بتوفير العنصر المادي في الرحلة المباركة [ الصاحب، الزاد، الراحلة، الخريت].
- كتمان أمر الهجرة النبوية الشريفة، والحرص على عدم نشر الخبر بين أهل مكة، وهذا إرشاد للأمة نحو عدم إفشاء الأسرار العامة والخاصة، والتعود على عدم الخوض في كل الأمور ذات الطابع العام.
- الحرص على رد الأمانات، وتوكيل من تتحقق أمانته لردها؛ فقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه ورضي عنه برد الأمانات إلى أهلها، وهذا إرشاد للأمة على عظم مكانة حفظ الأمانة وردها ولو مع غير المسلمين.
- افتداء علي بن أبي طالب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بالنفس، حيث بقي في مضجعه إلى أن دخل عليه المتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه بين ظهرانيهم محفوظا بحفظ الله ومؤيدا بتأييده، وفيه دلالة على محبة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
_ نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة في غار ثور، حين اقترب الخطر حتى كان أدنى من شسع النعل وانتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال:﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنا﴾ ﴿فَأنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ الآيَةَ. والمعنى المراد عند أهل العلم: "من كان الله معه فلن يغلب ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن.. وذلك أن أبا بكر خاف من الطلب.. أن يعلموا بمكانهم، فجزع من ذلك وكان حزنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على نفسه وقال: إذا أنا مت فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين.
أخرج الشيخان عنه رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما "(٢) وزاد البزار والطبراني والبيهقي في الدلائل عن أنس والمغيرة بن شعبة فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه..قال النووي: هو داخل في قوله سبحانه: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.. وفيه بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر وهي من أجل مناقبه..".( فتح البيان).
- تعاون آل أبي قحافة وأهل بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة؛ عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما المكلف بالتحري وإخفاء خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما؛ القائمة على شؤون توفير الزاد والطعام طيلة المقام الشريف في الغار، وعامر بن فهيرة راعي غنم الصديق أبي بكر رضي الله عنه؛ القائم بالسير على خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضوان الله تعالى عليه، وإخفاء الأثر؛
فحازوا قصب السبق في خدمة الدين؛ وسنوا سنة حسنة لكل من يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشر رسالته الخالدة.
_ مشاركة المرأة في النصرة.
- نصر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في كل أحداث الهجرة؛ بدءا بخروجه من بيته الشريف دون أن يروه؛ ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ﴾.
وحفظه بحفظه في الغار؛
﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱلله إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱلله مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱلله سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱلله هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱلله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠﴾.
وفي الطريق من اقتفاء الأثر من قبل سراقة بن مالك، وإعطاؤه الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم.
_ العفو عند المقدرة.
_ إظهار صدقه عليه الصلاة والسلام في الإخبار عن فتح فارس.
- انتظار الصحابة رضي الله عنهم والأنصار الكرام رضوان الله عليهم وأهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سماعهم خبر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقدومه عليهم؛ فكانوا يخرجون إلى الحرة حتى يردهم حر الظهيرة، فلما طال انتظارهم؛ أشرقت الأنوار بمقدمه صلى الله عليه وسلم، وأضاء من المدينة كل شيء، وتطيبت طيبة بطيب النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت المدينة المنورة مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومستقر أهل الإيمان.
_ تأسيس أول مسجد في الإسلام.
_ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فيه دلالات ومعان تشير إلى قوة الرابطة الإيمانية.. وأهمية تماسك جسد الأمة.. وتقاسم الموارد والتعاون على تفتيت الأعباء المادية والمالية بين الأفراد وتحقيق التوازن والتناسب من جهة مقابلة الوفرة والقلة.
_ سرور الصحابة رضوان الله عليهم بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم -وحق لهم ذلك-:يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضِي اللهُ عَنه: {لَمَّا كان اليومُ الَّذي دخَل فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم المدينةَ"، أي: يومَ هِجْرتِه إليها، "أضاء منها كلُّ شيءٍ"، أي: أشرَقَت المدينةُ بالخيرِ والبرَكةِ، وهذا بيانٌ لسُرورِه وعِظَمِ فرَحِه بمَقْدَمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عليهم وبَقائِه فيهم}. الترمذي.
وأصبحت الهجرة النبوية الشريفة معطفا تاريخيا مباركا لكل من يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجلت فيها معاني هجر أرض المعاصي والآثام وبلاد الفسوق والغرور والعصيان.
فما أحوج أجيالنا لاستحضار معاني الهجرة النبوية الشريفة والعمل على هجر الهوى والنواهي والكسل وحسن الاتباع.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب.