تعبر الهجرة عن حركة الأفراد و تنقلهم من موطنهم الأصلي إلى مكان آخر بهدف الاستقرار فيه، سواء داخل الوطن أو خارجه.
و هي علاوة على ذلك تشكل ظاهرة إنسانية و آداة مميزة للتعارف بين الشعوب و تلاقح الثقافات و تقوية أواصر الحضارات.
و الظاهر أن الأهداف المسببة للهجرة تختلف من دولة إلى أخري باختلاف و تعدد عوامل الطرد و الجذب التي هي المحدد الأساسي لحركة نزوح السكان بصفة عامة.
في هذا السياق، عرفت الدولة الموريتانية بعد الاستقلال حركة داخلية كبيرة لنزوح السكان من الأرياف إلى المدن بين 1969-1975 بفعل موجة الجفاف التي ضربت المنطقة خلال هذه الفترة و ألحقت أضرارًا بالغة بالاقتصاد الفلاحي والرعوي الذي كان يشكل و قتها العمود الفقري لمصدر الرزق و الركيزة الأساسية لمعيشة جل الموريتانيين.
لقد أدت هذه الوضعية إلى زيادة عدد سكان المدن الداخلية و مضاعفة سكان العاصمة أنواكشوط علي وجه الخصوص ، التي استوعبت بالفعل سنة 1977م ما يناهز 9.6 بالمائة من مجموع السكان.
وقد استمرت هذه النسبة في التطور خلال الأربعة عقود الماضية ، حيث أصبحت البلاد وجهة مفضلة لدول الجوار الإفريقي خصوصًا بالنسبة لليد العاملة و مكانًا مميزًا للعبور نحو القارة الأوروبية بالنسبة لمواطني الدول الإفريقية الأخري ، نتيجة لإطلالتها على المحيط الأطلسي.
لذلك فقد تسارعت وتيرة تدفق المهاجرين من جنسيات مختلفة ، حيث تشير بعض المعطيات الإحصائية أن أعدادهم المسجلة في العاصمة في شهر دجمبر من سنة 2022م المنصرمة وصل إلي136000 مهاجر و هو ما يزيد من هشاشة الأوضاع الأمنية و الاجتماعية و الاقتصادية للدولة الموريتانية التي تتميز بكونها دولة عبور و إستقبال في آن واحد.
ولا شك أن مشاركة بعض المهاجرين الأجانب من جنسيات مختلفة في أحداث التخريب و السطو علي ممتلكات المواطنين التي عرفتها مدينتي أنواكشوط و أنواذيب مؤخرا ، يبين بجلاء المخاطر الكبيرة و الإنعكاسات السلبية لهذه الهجرة علي الأمن القومي الوطني، إذا لم يتدارك الأمر بخطوات حاسمة لتقنينها و ضبطها بشكل محكم ، خصوصًا في وجه الإستغلال المرتقب لمصادرنا الغازية في أفق 2024م.
وتبقي الإشكالية المحيرة للكثير من متابعي الشأن العام اليوم هي هجرة الشبان الموريتانيين و بأعداد مقلقة نحو الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى تحقيق الأحلام .
فهل لهذه الهجرة ما يبررها؟ و متى كان اللجوء إلى الخارج دومًا يحقق كل ما نصبوا إليه ؟
في الواقع لا نملك كل المعطيات الموضوعية التي تمكننا من الإجابة علي هذه الأسئلة، لكننا نعرف بالتاكيد أن هؤلاء الشبان خاطروا بحياتهم و تجشموا الكثير من العناء المادي و البدني و تعرضوا لشتي أنواع الإبتزاز خلال مسار رحلة اللجوء تلك. لكن الأمر و الأدهي من ذلك هو أنهم لا يدركون أن هذه الهجرة تنعكس سلبًا علي إختلال النمو الديموغرافي في البلد و تفرغه من قواه الحية الشابة التي يعول عليها في الإسهام في تنميته.
و من أجل مواجهة هذه التحديات التي أصبحت تنذر بناقوس خطر حقيقي فإننا نتقدم بالتوصيات و المقترحات التالية للإسهام في إيجاد الحلول المناسبة لها و في طليعتها:
- مراجعة الإتفاقيات السابقة مع دول الجوار الإفريقي و إعتماد نظام تأشيرة الدخول علي جواز السفر بدل بطاقة الهوية الوطنية،
- تقوية الأجهزة الأمنية المكلفة بالهجرة و إنشاء حرس خاص توكل إليه مهمات ضبط الحدود و تسيير المعابر،
- تحديد نقاط إجبارية للعبور وفرض رقابة صارمة عليها ،
- إعداد إستيراتيجية وطنية لمواجهة الهجرة و تداعياتها تأخذ في الحسبان خصوصية موريتانيا و المصالح العليا لشعبها، و ينبغي أن تنصب الجهود ضمن هذا الإطار علي إيجاد مقاربة واقعية، فعالة و مستديمة لمعالجة مشكلة بطالة الشباب و توسيع مجالات التعليم الفني والتكوين المهني المرتبطة بإحتياجات سوق العمل.
و قد قامت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بخطوات ملموسة في هذا الصدد بعد إستكمال دراسة و تمويل العديد من المعاهد الفنية المتخصصة في إطار تعهدات رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ستقام قريبًا بحول الله في مختلف عواصم ولايات الوطن.
إلي جانب تلك المنشآت لا بد من إقامة معاهد فنية ذات تكوين متوسط تشمل كل التخصصات المطلوبة كي تستفيد القاعدة العريضة من شبابنا ممن لم يحالفهم الحظ من إكمال تعليمهم من الفرص الإستثمارية الواعدة في مجالات الزراعة و الصيد و التعدين و الغاز …الخ . و يجب أن تتاح فرصة التكوين هذه للشباب في المهجر من خلال تفعيل الشراكة و التعاون مع الدول الصديقة و الشقيقة و ذلك لتأهيلهم و تسهيل عملية دمجهم في النسيج الإقتصادي الوطني عند عودتهم للبلاد.
و يتعين علي الدولة في هذا المقام أن تقوم بوضع الآليات الكفيلة بتطوير الشراكة بين القطاع العام والخاص و إقامة الصناديق التنموية القادرة علي تمويل كل المشاريع و المبادرات الشبابية الجادة و خاصة دعم المشاريع الصغيرة و المتوسطة التي تساعد علي خلق مزيد من الثروة و التشغيل.
و يعول الموريتانيون علي الله أولًا و أخيرًا و علي حكمة و وطنية رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني و علي دوره المشهود في البناء و الإصلاح في التصدي و بحزم لكل المخاطر و التحديات التي يمكن أن تواجهها موريتانيا ضمانًا لسيادتها و وحدتها الوطنية و صونا لكرامة شعبها و تنمية أجيالها المستقبلية.
قال تعالي:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
صدق الله العظيم .
بقلم د: محمد الراظي بن صدفن