رغم أن استقالة الرئيس محمد جميل منصور من حزب تواصل كانت متوقعة منذ بعض الوقت؛ حيث كان منذ الانتخابات الأخيرة في مرحلة تجميد العضوية( أخذ مسافة كافية من الحزب للتقييم )، كما أن ملاحظاته وتحفظاته على الحزب وسياسته ومواقفه كانت معروفة ومعبر عنها علنا خلال السنوات الأخيرة، الأمر سيقلل من وقع مفاجأة الاستقالة ومن صدمتها لقواعد تواصل وللذين عملوا مع الرئيس طوال فترة رئاسته للحزب و اطلعوا عن قرب على كفاءته وقدراته السياسية الاستثنائية وتضحياته الكبيرة لتأسيس الحزب وبنائه على أسس سياسية متينة ورصينة أوصلته للمستوى الذي هو في اليوم. رغم كل ذلك فإن استقالة الرئيس جميل من تواصل ليست بالحدث الهين ولا يمكن أن تمر كحدث عابر أو تقارن باستقالة شخصيات أخرى رغم إحترامها وأهميتها.
وبوصفي أحد قادة الحزب الذين واكبوا الرئيس جميل منذ تأسيس الحزب ، بل وقبل ذلك، حيث واكبته من موقع أول امين عام للحزب ومن منصب رئيس مجلس شورى الحزب، وواكبته أيضا كنائب لرئيس الحزب لأكثر من مرة، لا يسعني إلا أن أقدم شهادتي المتواضعة بخصوص هذا القائد الفذ والنادر.
لقد حبى الله الرئيس جميل بخصال في القيادة قل أن تجتمع في شخص واحد ؛ فبالإضافة إلى العلم و الثقافة الغزيرين والاطلاع الواسع والذكاء وسرعة البديهة والقدرة على تصور الحلول والمخارج السريعة للإشكالات الحادة و المستعصية، فإن الرئيس جميل يتمتع بالخصال التالية:
١. الوطنية والصدق والولاء للوطن ككل لا لشريحة أو قبيلة أو جهة، حيث ان لديه رؤية وطنية جامعة وسعة صدر لاستيعاب الجميع بمختلف مشاربهم ويناصر القضايا العادلة وأصحاب المظالم الإجتماعية والمطالب الحقوقية بصدق وشجاعة ، كما كان ينحاز دائما للمستضعفين ويدافع عن حقوق الفقراء ومحدودي الدخل.
٢. الواقعية السياسية المترجمة في درجة عالية من النضج وعمق النظر السياسي والقدرة على تقدير المواقف و استشراف المآلات مع الموضوعية في التحليل والتشخيص.
فهو يصوغ المواقف و يقدم الحلول بنظرة المفكر السياسي الذي لا تأسره المثاليات والمبادئ النظرية ولا ينجرف وراء إكراهات الواقع و ضرورات البراجماتية السياسية، بل إن موقفه في الحزب كان دائما يمثل توازنا بين ذلك مع الحرص على أن لا تتأثر القرارات والمواقف بالعاطفة أو المواقف المسبقة من أية جهة ، وهو بحق شخص معتدل في تفكيره ونظرته ومواقفه بعيدا عن التطرف والتعصب.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإنه يؤمن بالشراكة في الوطن وينفتح على مختلف الفاعلين فيه ويتعاطى معهم بإيجابية واحترام، ولذلك فقد حظى باحترام كبير ومكانة متميزة لدى النخبة السياسية والحقوقية ولدى المثقفين والصحفيين وأصحاب الرأي.
٣. التواضع والبساطة والمرح واحترام الجميع والانفتاح عليهم والاستعداد للاستماع للرأي الآخر ، بل إنه كان يقبل رأي غيره في حالة حصوله على الأغلبية داخل هيئات الحزب، وأشهد أنه في أكثر من مرة كان ينصاع لرأي الأكثرية ويتخلى عن رأيه و يسعى كغيره من أعضاء القيادة للدفاع عن ذلك الموقف وتسويقه سياسيا.
٤. الحرص على تطبيق الديموقراطية و بناء المؤسسية داخل الحزب والتقيد في الغالب الأعم بأن تتخذ القرارات من طرف الهيئات الحزبية المختصة وأن يكون ذلك وفق الآليات والقواعد الواردة في أنظمة الحزب. كما يحسب له قبوله تطبيق قاعدة التناوب على رئاسة الحزب وخروجه من الرئاسة في أول استحقاق ذي صلة، وهي المسألة التي أكسبت الحزب سمعة وزخما محليين كبيرين في ساحة لاتعرف التناوب الديموقراطي على قيادة الأحزاب.
٥. التضحية من أجل بناء الحزب و بذل قصارى الجهد لتقديمه بأسلوب وخطاب مقبوليين داخليا وخارجيا مع النجاح في بناء علاقات عامة حسنة مع البعثات الديبلوماسية للدول الشقيقة والصديقة والدول ذات التأثير على الساحة الدولية.
هذا بالإضافة إلى التضحية بالوقت والجهد والمال والصحة والفرص وتحمل الأذى وتشويه السمعة في سبيل بناء هذا الحزب وتمدده واتساع دائرة قبوله، فضلا عن السعي لحمايته من المتربصين به وإبعاد الأخطار والتهديدات التي تستهدفه.
هذا جز ء مما خبرته عن الرئيس جميل طوال عملنا في قيادة تواصل منذ إيداع ملف ترخيصه لدى وزارة الداخلية، ورغم أنني أنني لم أذكر كل خصال الرئيس جميل ومقومات القيادة لديه ، إلا أن ذلك لا يعني أنه كان بمنئ عن الملاحظات والأخطاء كأي قائد، ولا يعني أنه لم تكن مسجلة عليه ملاحظات من طرف الحزب وقيادته خاصةبعد مغادرته رئاسة الحزب فكل ذلك معلوم وهو طبيعي، ولكن لا مجال للحديث عنه هنا.
والخلاصة هي أن استقالة جميل من تواصل لن تكون حدثا عاديا على مستوى الحزب ولن يبقى تواصل بعد مغادرة رئيسه المؤسس هو تواصل نفسه بدون تغيير، رغم أن الرئيس وفق حينما كانت مغادرته للحزب استقالة " هادئة" وليست إنشقاقا، فتلك هي سنة الأحزاب المماثلة ذات المرجعيات الأيديوليوجية التي بمجرد مغادرة مؤسسيها تشهد تغييرات وتقبلبات في المواقف والمسارات وأنماط الشعبية والتأييد....
كما أن الرئيس جميل بعد مغادرته تواصل لن يبقى هو جميل القائد في صفوف قواعد تواصل والمناصرين له، وتلك أيضا سنة القادة المؤسسين الذين يغادرون الأحزاب التي كان لهم الدور الأكبر في بنائها، فلا الأحزاب تبقى كما كانت بعدهم ولاهم يبقون كما كانوا داخل أحزابهم التي أسسوها بعد مغادرتهم لها.
عموما أبارك للرئيس جميل كل خياراته وأتمنى له التوفيق أينما كان. ولا شك أن الجهة التي ستحظى بتفضيله العمل معها ، إن كان سيختار جهة محددة، ستكون محظوظة بشخصية سياسية وفكرية من العيار الثقيل يقل أن تتوفر أمثالها في الساحة الوطنية.
و في المقابل فإن تواصل ، وكما هي حال الأحزاب الكبيرة والمؤسسية، وكما برهن على ذلك في أكثر من مناسبة، سيتسمر في أدائه ونضاله رغم الخسارة الكبيرة، لكنه سيكون مطالبا أكثر من أي ومضى باستخلاص الدروس ومراجعة منهجه وأسلوب تعاطيه مع بعض قادته البارزين في الآونة الأخيرة.
د. الصوفي ولد الشيباني
أحد القادة المؤسسين لحزب تواصل