تفاجأ بعض المراقبين بإصرار أمريكا وتركيا وبقية الشلة في حلف "الناتو" على الإطاحة بنظام بشار الأسد حتى ولو كلفهم ذلك تقبيل يد "أبو محمد الجولاني" الذي سبق وأن جعلوا 10 مليون دولار جُعلا لمن أتى برأسه.وفي الجهة الأخرى، تفاجأ البعض بإصرار روسيا على الدفاع عن نظام بشار حتى آخر لحظة، مستخدمة حق الفيتو في الأمم المتحدة عشرات المرات، وداعمة لنظامه بالسلاح والطيران الحربي في ساحة القتال.
* ما السر في موقف الروس من سوريا بشار الأسد؟ وما السر وراء الموقف الامريكي؟
- نبدأ بالموقف الروسي.هناك خمسة (5) أسباب أساسية تفسر موقف روسيا المؤيد والداعم لنظام الأسد حتى آخر لحظة:
- أولا: عام 1960، قام الاتحاد السوفياتي بإنشاء أربع نقاط استراتيجية في الشرق الأوسط - هي العراق وسوريا واليمن ومصر - في مواجهة النفوذ الأمريكي المعتمِد على أربع نقاط، هي: إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج، وباكستان. ومع تطور الحرب الباردة وما نتج عنها من تحولات وموازين قوى، لم يتبق للروس إلا نقطة واحدة، هي سوريا بشار الأسد.
- ثانيا: في منتصف القرن الماضي، عندما عبرت البحرية السوفياتية مضيق البوسفور بالقوة لتأخذ مكانها في البحر الأبيض المتوسط، وجدت استقبالاً إيجابياً من أبناء الطائفة العلوية المضطهدة تاريخيا في موانئ طرطوس واللاذقية.
وهي الموانئ التي ظلت لأكثر من ستة عقود قواعد بحرية أساسية وحيدة للسفن الروسية في المنطقة.
- ثالثا: تمكنت روسيا من بناء علاقات اجتماعية واسعة داخل سوريا عبر التزاوج بين البحارة الروس والفتيات السريانية والأرثوذكس الشابات، وهو ما أسس لوجود جالية سورية من أصل روسي كبيرة على امتداد مدن الساحل. ولا يمكن تصور للحظة واحدة أن موسكو ستتخلى عن جاليتها هناك.
- رابعا: لقد حرص الروس دائمًا على إقامة علاقات حسن جوار مع إيران عندما كانت تربطهما حدود مشتركة في عهد الاتحاد السوفياتي. ومنذ ذلك التاريخ وهم يحاولون تعويض النقص الناجم عن اختفاء الحدود من خلال توظيف علاقتهم المتميزة مع سوريا كنقطة ارتكاز باتجاه العراق وإيران.
- خامسا: لا شك في أن الروس يشعرون بشيء من الامتعاض حيال الطوائف السنية والإسلام المتطرف عموما بسبب حربهم ضد الشيشان وطالبان الذين هم من ذوي المعتقد السني.
* هذا عن الروس، وماذا عن الموقف الأمريكي ؟
لماذا حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على الإطاحة بنظام الأسد لدرجة التنسيق مع من كانت تصنفهم بالأمس القريب فلول "القاعدة" و"داعش"؟ هناك عدة أسباب مهمة، ومنها: - أولا: كون المشروع الأمريكي الهادف إلى خلق شرق أوسط جديد خاضع وخانع لإسرائيل يستَوجب بادئ ذي بدء إزاحة نظام الأسد عملا بمقولة هنري كيسنجر: "لا حرب ضد إسرائيل من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا".
- ثانيا: بمعنى أن ما تريده أمريكا من "سلام" لإسرائيل وتطبيع لوجودها وأمن وتوسع في ظل شرق أوسط جديد يستحيل مع وجود سوريا "الممانعة". قالها كيسنجر : لا سلام دون سوريا. ولهذا السبب لم تتردد أمريكا في دعم وتشجيع "السلفيين" الذين قتلوا جنودها في نيويورك والصومال وأفغانستان والعراق لإزاحة الأسد.
- ثالثا: ما يجري في سوريا ولبنان وفلسطين هو محاولة لعزل إيران نهائيا وقطع أيديها وأرجلها، وتوسيع نطاق الاتفاقيات "الابراهيمية" لتشمل كل الدول العربية ( والسعودية خاصة)، وضم الضفة الغربية والجولان السوري، وربما أراضي أخرى لا تخطر على بال أحد الآن.
- رابعا: سيكون ذلك استمرارا منطقيا لإجراءات سابقة اتخذها "دونالد ترمب "، مثل: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وإلغاء الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، وإضعاف المقاومة الإسلامية في غزة ولبنان، وتسويق الاتفاقيات الابراهيمية.- خامسا: يضاف إلى هذه الأسباب السياسية والاستراتيجية أسباب اقتصادية جوهرية تتعلق بالحرب على روسيا التي تمتلك سوق الغاز حصريا في أوروبا، باستثناء بعض الواردات من الجزائر.
نذكر أنه في عام 2012. قررت الولايات المتحدة، بالاتفاق مع قطر والمملكة العربية السعودية، محاربة هذا الاحتكار الروسي بالاعتماد على الغاز القطري، الذي سيتم نقله عبر خط أنابيب باتجاه البحر الأبيض المتوسط إلى تركيا (أضنة)، وسوريا (اللاذقية)، ولبنان (طرابلس)، وإسرائيل (حيفا).
يمكن لهذا الخط أن يمر بسهولة في كل هذه البلدان المعنية باستثناء سوريا، التي تحتل في المشروع مكانا استراتيجيا كبيرا.- سادسا: اليوم، وبعد إزاحة الأسد لا شيء يمنع إنجاز مشروع نقل الغاز من قطر عبر المملكة العربية السعودية دون المرور بالعراق وإيران والوصول إلى مدينة حمص في وسط سوريا التي ستصبح "محطة توزيع" باتجاه الموانئ المذكورة أعلاه في تركيا ولبنان وإسرائيل.
* خلاصة القول إن الحرب على سوريا هي في العمق مظهر جديد من مظاهر الحرب الباردة يمس السياسة والأمن والدفاع والاقتصاد معاً. ويتجلى ذلك فيما تقوم به إسرائيل من قصف وتدمير لمقدرات الدولة السورية: مواقع عسكرية استراتيجية، ومؤسسات ومنشآت اقتصادية، وبنى تحتية، ومراكز علمية وبحثية، وقتل علماء. من الواضح أن سوريا على المدى المنظور لن تعرقل أو تعطل المشروع الأمريكي.، بل أكثر من ذاك، ربما ننام ونستيقظ غدا على أربع (4) "دويلات": سنية، وعلوية، وكردية، ودرزية،،، على نحو ما جاءت به "عصبة الأمم" عام 1920.
لا أقول إن القادة الجدد في دمشق جزء من هذا المشروع، حاشاهم من ذلك. ومعاذ الله أن أشكك في إخلاصهم ونياتهم الحسنة تجاه العرب والمسلمين وغزة وفلسطين، إلاّ أنني أخشى أن يُستغل ما بهم من غضب وحنق ورغبة جامحة في الانتقام لتحقيق أهداف غير أهدافهم.