عندما اندلعت أحداث 7 أكتوبر وما تلاها من حرب عدوانية على غزة، انتشرت على نطاق واسع في الصحافة الإسرائيلية نغمة التشاؤم من مصير “الدولة التي قامت من أجل حماية اليهود”، فغدت اليوم عاجزة عن أداء هذا الدور التاريخي.
والواقع أن تجربة “الدولة” في علاقتها بالمجتمعات اليهودية ومعايير المواطنة الحديثة لم تفتأ تطرح إشكالات كبرى في الفكر اليهودي المعاصر، رغم ضعف الاهتمام العربي بهذه الجوانب التي لا سبيل لفهم طبيعة المعادلة الإسرائيلية الراهنة بدونها.
لن نرجع إلى الكتابات التاريخية والسوسيولوجية الكلاسيكية في الموضوع، ولكن سنكتفي بعرض كتاب عالم الاجتماع اليهودي الفرنسي “داني تروم” الذي صدر مؤخرًا بعنوان “دولة اللجوء: إسرائيل، اليهود وأوروبا” باعتباره يشكل حسب اعتقادنا أحدث وأهم دراسة شاملة حول ظرفية نشوء “الدولة اليهودية” وما ولد هذا النشوء من إشكاليات جوهرية يعاني منها حاليًا المجتمع الإسرائيلي.
في هذا السياق، يبين تروم أن مشروع الدولة القومية لم يكن هو الأفق الذي انطلقت منه الأيديولوجيا الصهيونية كما بلورها تيودور هرتزل في كتابه “دولة اليهود” (أو دولة من أجل اليهود) الصادر سنة 1896. لم يكن هذا الأفق مطروحًا لأسباب عديدة، من بينها التقليد اليهودي الذي قام تاريخيًا على تجربة تحالف المجموعات اليهودية مع ملوك وحكام الدول مقابل الولاء والعروض المادية، بما ضمن لهذه المجموعات الحماية والاستقلالية النسبية في محيطها الأهلي الخاص. ورغم ما لهذه التجربة من سلبيات ونقائص، لكنها ضمنت للشعوب اليهودية البقاء والأمن مع التميز في البلدان الغربية.
إلا أن الوجود اليهودي واجه تحديات صعبة جديدة مع الحداثة السياسية، بالانتقال من نظرية الحق الإلهي المطلق إلى مبدأ السيادة الشعبية، بما يعني اندماج اليهود من حيث هم أفراد في النسق السياسي للشعب الذين هم أعضاء فيه، تكريسًا لنهاية الحلف الملكي المقدس الذي ضمن تاريخيًا الحماية لليهود من “نقمة الجمهور”.
ومع نهاية القرن التاسع عشر ظهر تصوران للهوية اليهودية: مشروع التحالف الثوري مع القوميات المنتفضة ضد القيصر الروسي لبناء مجتمع يهودي مستقل، ومشروع بناء هوية قومية يهودية على غرار الأمم السياسية الأوروبية في الغرب.
في المشروعين، لم تطرح فكرة الدولة القومية السيادية، ولم يتبنها حتى هرتزل نفسه الذي طالب بإنشاء دولة حاضنة لليهود، بالنظر إلى الرؤية المتوترة لمبدأ السيادة القومية الذي لا يتلاءم مع حل “المسألة اليهودية”.
لقد آثر هرتزل مرجعية “الحماية والعون الاضطراري” على مرجعية “العقد الاجتماعي” بالمفهوم الحديث الذي يفترض وجود إرادة جماعية مشتركة لأمة قائمة وهو ما لم يكن متوفرًا بالنسبة لليهود.
ومن هنا يبين تروم أن هرتزل لم يسع إلى تأسيس دولة قومية يهودية، بل مجرد وطن يلجأ إليه اليهود من المحرقة والاضطهاد، ولذا كان واعيًا أن هذا المطلب لا يتحقق إلا من خلال قنوات السياسة الدولية لا القوانين المدنية الوطنية.
ولم تكن إسرائيل لتنشأ وفق مبدأ الحقوق السيادية للشعوب الذي سارت عليه ديناميكية الدول الحديثة من ربيع الشعوب في القرن التاسع عشر إلى الثورات التحررية الوطنية في القرن العشرين، بل نشأت عبر لعبة النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية في صياغاته القانونية لحالات اللجوء والحماية.
وهكذا نلمس العقدة التأسيسية الكبرى لإسرائيل التي لم تتشكل كدولة قومية طبيعية، بل هي كيان يرتكز على الانفصام الدائم بين المواطنة السياسية والهوية القومية. فمن حيث المبدأ، ووفقًا لقانون العودة الصادر عن البرلمان الإسرائيلي سنة 1950، تسمح الدولة العبرية لكل يهود العالم باللجوء إليها وهم في غالبيتهم غير مواطنين فيها (أصبحوا اليوم 50 بالمئة من السكان في حين كانوا فقط 10 بالمئة عند إعلان الدولة)، في حين تمنح المواطنة لخمس سكانها من الفلسطينيين دون أن تعتبرهم من النسيج القومي للدولة. ولقد تعقدت هذه المعادلة الداخلية من جراء تركيبة الهجرات الأخيرة القادمة من روسيا وأوروبا الشرقية، إذ يتعلق الأمر بمجموعات تنتمي لأصول يهودية وان كانت في الواقع خارج التحديدات التي يفترضها الفهم الإسرائيلي للهوية اليهودية.
إن هذا المشكل هو الذي منع تاريخيًا وضع دستور للدولة الإسرائيلية (رغم اشتراطه في قرار الاعتراف الدولي)، لأن القاعدة القومية الافتراضية للدولة (مجموع يهود العالم) لا تتناسب مع دائرة المواطنة الفعلية.
يرى تروم أنه لا يمكن التقليل من مخاطر تصدع وانقسام المجتمع الإسرائيلي الراهن، فالواقع أنه أصبح خليطًا من مجموعات متنافرة لا شيء يجمع بينها، من اليهود الغربيين (الأشكيناز) الذين أسسوا الدولة وحكموها منذ قيامها وإن أصبحوا اليوم أقلية عددية، واليهود العرب والشرقيين، والمجموعات الدينية المتطرفة، والجماعات القومية المتشددة. ولقد سلكت الدولة الإسرائيلية في ضبط هذه التركيبة الاجتماعية المعقدة نفس إجراءات سلطات الانتداب البريطاني ونظام الملل العثمانية باعتماد مبدأ الهوية الدينية الذي يتعارض في الجوهر مع مقاييس النظام السياسي الحديث.
ما يخلص إليه تروم هو استحالة بناء دولة قومية يهودية كما حاول الكنيست الإسرائيلي في قانون الهوية لسنة 2008، بل إن الشكل السياسي الوحيد الملائم للمجتمعات اليهودية والمتناسق مع المتخيل اليهودي هو “دولة اللجوء” التي لا يتجاوز دورها حماية المجموعات اليهودية من مخاطر التصفية والإبادة.
ما نضيفه إلى أطروحة تروم هو أن سياسات اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل ستقود في نهاية المطاف إلى تقويض هذا المشروع السياسي الذي قامت عليه النظرية الصهيونية الأصلية بأن تتحول إسرائيل إلى الخطر الأكبر على الشعوب اليهودية بدل أن تكون ملجأها.
كانت الفيلسوفة اليهودية الأمريكية حنة أرندت قد توقعت هذا الخطر بعد حرب 1967، معتبرة أن عجز الدولة العبرية عن التفاهم الإيجابي مع الفلسطينيين والعرب سيحولها إلى قلعة معزولة في محيطها الشرق أوسطي تحافظ على وجودها بمحض العنف والحرب بما يحول بينها وتحقيق “الحلم اليهودي” في الأمان والسلم.